• اخر الاخبار

    9/03/2015

    صناعة العقول والعبوديّة المقنّعة في الديمقراطية الخادعة


    الديمقراطيّة الخادعة ، لشرعنة السلطات غير الشرعيّة ، بتضليل الناس ودفعهم إلى اتخاذ القرارات التي تعارض أمانيهم ومصالحهم !

    في مراحل الإقتتال الوحشي بين البشر كان الجسد هو هدف القتل لتحقيق الإنتصار وكانت عملية الحكم تتم من خلال التحكّم المباشر بالأجساد وما فيها من قوّة وإمكانيات لشنِّ الحروب والتّوسُّع.

    أما اليوم وفي زمن التعايش السياسي بين الحكام والمحكومين عن طريق الإخضاع بقوة السلطة أو عن طريق الخداع والتضليل السياسي، فإن السيطرة على  العقل هو الوسيلة البديلة للسيطرة على الإنسان عن بعد  من خلال زراعة العقول في المحكومين ، بدلاً من السيطرة الجسديّة عليهم .

    إن صناعة العقول ، أصبحت حاجة هامّة وضرورية في العمل السياسي لإنجاح مهمة الحاكم في التحكّم بالمحكومين بدلاً من القضاء على أجسادهم والتصادم مع الشعارات الديمقراطية والإدعاءات التي تنادي بها الأنظمة السياسية باحترام حرية العمل السياسي وما يتبعها من حريات للتعبير وإبداء الرأي  وغير ذلك من حقوق الإنسان التي أصبحت أهم سمات العصر الحديث .ـ

    وبدلاً من ان تتصرف الأنظمة السياسية بطريقة قمعية ضد ما تتباهى من الشعارات والإدعاءات المذكورة ، فهي تبقي على تلك الشعارات ، ولكنها تعمل على تغيير طريقة تفكير الناس ، إبتداء من مرحلة الطفولة بإنتاج عقول خاضعة لمنطق الحكم ولديها قابلية الخنوع والإستسلام لتوجيهاته ، لإعداد المواطنين الذين يرون الأمور بمنظار السلطة والتي تجعلهم مهيّئين لتقبّل منطق الحكم وغير قادرين على فهم الشيفرا السلطوية في كل من الخطاب السياسي والأداء الرسمي للنظام الحاكم .

    ولأننا في زمن ينقسم فيه العالم بين دول قوية مسيطرة وبين دول ضعيفة يسيطر عليها الأقوياء ، ولمنع تلك الشعوب من التحرر من سلطة الدول المسيطرة ومن إشتعال الثورات الشعبية التي قد تحقق السيادة والإسقلال وتحرم القوى الدولية المهيمنة مما تجنيه من موارد البلدان ومن خيرات الشعوب المقهورة ، فقد اعتمدت تلك الدول على حيلة الديمقراطية لحكم الشعوب في البلدان المسيطر عليها من قبل حكام وأنظمة تختارها  وتفرضها على تلك الشعوب عن طريق تلك الخدعة ، بحيث تجعل كل شعب يتوهّم بأنه هو من يختار حاكمه ويحدد نظامه وقوانينه بنفسه ، بحسب مقولة الديمقراطية التي تعني في أصلها اليوناني ، حكم الشعب لنفسه بنفسه.

    وفي الدول التي تفقتد إلى الشرعية الشعبية والتي تصادر حرياتها وسيادتها ويعامل شعبها معاملة الأسرى والسجناء في بلدانهم ، فإن الخدعة الديمقراطية تلعب دوراً مهمّاً في إضافء الشرعية على أنظمة هي في الحقيقة غير شرعية ، وتشرعن سلطات يتم تعيينها من قبل المستعمرين من ذوي النفوذ الدولي على المجتمعات والشعوب لتحقيق مصالح المستعمرين .

    ولتحقيق تلك الخدعة وما يرتبط بها من أهداف سياسية وإقتصادية وإستراتيجية ، فقد اعتمدت المراجع السياسية المسيطرة على العقل المصطنع للمحكومين ، والذي يتم تركيبه من معطيات خرافية أسطورية وغيبية من قبل مؤسسات الدين التابعة لمؤسسات الحكم ، ومن معطيات مضللة من خلال وسائل الإعلام التي تقوم بصناعة الرأي العام وتوجيهه في الإتجاه الذي يخدم إستمرار  النظام وجعل الحاكم مخلّداً على ظهور المحكومين .

    ولو نظرنا إلى ما يقوم به أي حاكم يأتي إلى السلطة نجد أنه يقوم بما يلي :


    يقسم الشعب بين موالين ومعارضين ، ثم يخوض حرباً إعلامية وأمنية شعواء على معارضيه من جهة ، ومن جهة أخرى يقوم بتعديل البرامج التعليمية وإعادة تشكليل الإدرات الرسمية لإعداد أجيال جديدة من الموالين بعد عزل المعارضة وإبعاد تأثيرها عن الواقع السياسي الذي يصبح رهينة للحاكم ونظامه وسلطاته ، بدعم وتغطية الدول والقوى الدولية والإقليمية الراعية لذلك الحاكم بعيداً عن أي تمثيل شعبي يعبر بصدق عن تطلعات الشعب وأمانيه وأحلامه.

    وما يلبث العقل المفتعل والمركّب أن يصبح العقل الذاتي لأي محكوم  خاضع لمنطق الحاكم وادعاءاته الديمقراطية وأساليب تحايله على عقول المحكومين .

    وإن أخطر ما توصّلت إليه الذات الحاكمة خلال آلاف السنين من خبرات الغزو والسيطرة والإستبداد ، هي أنها توصلت إلى صناعة العقل الذاتي للمحكومين ، وإلى إدارة المحكومين وتوجيه إراداتهم والسيطرة على قرارهم وتوجههم السياسي  و توجيههم الذاتي من خلال ذلك العقل .

     إن العقل المصطنع  للإنسان المحكوم ، هو  الأداة الخفيّة التي تحتوي على  آليات الإستجابة والإمتثال للحاكم ، والتي بواسطتها يوجه الحاكم المحكومين ، وبه يسيطر الحاكم الذي هو رأس السلطة في النظام السياسي ، أو الزعيم السياسي الذي يتنافس مع غيره من الزعماء للوصول إلى السلطة. وجميع هؤلاء يحتاجون إلى خداع الإنسان لكي يلغي أولوياته ولكي يتنازل عن كينونته المستقلة وعن كرامته الشخصيةوعن حقوقه الإنسانية  ، و لكي يتحوّل إلى أداة تنفيذية ملحقة بهم فيصبح السيف والعصا والبندقية والمخلب والقدم والذنب التي يستخدمها الحكام والزعماء لتسيير أمورهم وتحقيق أهدافهم .

    ومن خلال العقل المصطنع  المبرمج على توجيهات وعواطف ومقولات إيمانية وتعبئة تحريضية ومعلومات خادعة ، تستطيع المراجع الدولية المسيطرة على أي حكم محلّي من خلال نظام الحكم ، قيادة زمام أمور المحكومين وتوجيه أقدارهم السياسية ، من خلال السيطرة على الكيان النفسي والذهني والجسدي وعلى آليات الفعل والتأثير والإنفعال في كل فرد من أفراد المحكومين ، بحيث يصبح البلد المسيطر حلماً للمحكومين وبحيث تصبح منتجات الدول المهيمنة وشخصياتها وبرامجها الإعلامية ووجوه نجومها ونجماتها  والنطق بلغاتها والإقتداء بتصرفات سكانها من العناصر الضرورية للشعور بالإنتماء إلى الحضارة الحديثة وإلى الرقي الذي يسعى إليه كل إنساني ، بدلاً من التمسك بالثقفاة الأصيلة وبالمكونات  وبالقيم الحضارية التي تشكل عنصر التماسك بين الفئات والمجموعات التي تحقق وحدة كل شعب وتولّد قوته الجماعية لفرض وزنه في الموازين السياسية وفي صناعة قراره وتحقيق سيادته الوطنية .

     ففي زمن العقول المصطنعة ، يتم تطوير العبودية بطريقة مقنّعة بحيث يستطيع الزعيم أو الحاكم قيادة أتباعهم من المحكومين بدون الحاجة للعصيّ والكرابيج التي كانت تستخدم في عهود الإستعباد السابقة اليوم ، يُعمل على حماية الجسد بينما يتم السيطرة على العقل.

     إنّنا في زمن صناعة العقول لتوجيه الإنسان ذاتيّاً لكي يسير في طريق إستعباده بشكل يبدو  فيه أنه يسير إراديّاً ويمارس خضوعه  للحاكم  وكأنه يفعل ذلك بملء إرادته أو بقناعته الداخليّة  التي تصل إلى الحماس والتعصب والتبعية العمياء ، بحيث يترك المحكومون أولوياتهم الحياتية ويجعلون من أولويات زعمائهم وحكامهم غاية الغايات ، وأهم الاهداف ، فيعرضون حياتهم للخطر ويخوضون الحروب التي تتسبب في تدمير بيوتهم ومدنهم وبلدانهم بأيديهم ، بدوافع ومنطلقات وأهداف لا يعلمون عنها شيئاً ، لكي يتحوّلوا إلى أدوات تنفيذيّة لأصحاب المشاريع والقوى الدولية والإقليمية  الذين يستخدمونهم  آلات قاتلة ومقتولة ،  معرّضين حياتهم وحياة أمثالهم من المحكومين في الفريق الآخر المعبّئين أيضاً بنفس الطريقة، بمبررات تبدو لكل فريق منهم أنها منطقيّة ومقنعة.

    ولكي يبدو كل عنصر مشارك في هذه الصراعات الدموية وكأنه يحارب من أجل أهدافه الشخصية أو في سبيل تحقيق ما يسعى إليه ، بينما تنتهي الحروب والصراعات إلى مفاوضات الدول لكي تتقاسم الأرباح وحصص الشركات في تنفيذ المشاريع وإعادة اقتسام الصلاحيات والنفوذ ، بينما يكون الإنسان الأداة مجرد أداة مجانية لتحقيق تلك الأهداف ، لكي ينتهي به الأمر بعيداً عن كل تلك الأهداف ، إما مقتولاً أو جريحاً معاقاً ، أو محبطاً يائساً ، إلى أن يجد نفسه أمام صندوق الإنتخابات " الديمقراطية " يدلي بصوته في لعبة ديمقراطية توهمه بالأمل الجديد ليجد نفسه أمام نفس الخدعة السياسة لوحوش المال من جديد .

     وكل ذلك الإندفاع  والنشاط الذاتي الذي تبدو عليه الأدوات البشرية لتحقيق أهداف من يسيّرها ، إنما يتم من خلال العقل المفتعل ، الذي يجعل الإنسان يتحرك ويفعل ويتصرّف من تلقاء ذاته وبوحي مما لديه من معلومات تم تعبئته بها .

     إن العقل المفتعل الذي يُزرع  في رؤوس المواطنين منذ مراحل الطفولة ، هو البديل الطي توصّلت إليه الذات الحاكمة الحديثة بديلاً عن الإجراءات التي كان يقوم بها الملوك والأباطرة للحفاظ على عروشهم، بقتل  الأطفال الذكور لكي لا يشكلوا خطراً على سلطانهم عندما يكبرون .

    و في هذا الزمن ، وبدلاً من قتل الأطفال ، يتم استبدال عقولهم التي خلقها الله على الإستعدادات الفطرية الإلهيّة ، للإدراك بالعقل والإقتناع بالفهم والتربية السليمة والإتجاه نحو الحق والخير والشعور  بالميل والحاجة إلى الآخرين  وتربيتهم على الأخلاقيات والتوجيهات المستمدّة من رسالات الأنبياء وأخلاقياتهم للتعامل مع الناس  بروح إيجابية واكتساب خبرات المحبة والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة التي تحقق االمصالح المشتركة لكل منهم .

    ، إن العمل السياسي الذي يقوم به الحاكم أو الزعيم ، يستبدل أولويات الإنسان وأهدافه التي تحقق مصالحه ومصالح مجتمعه ، بأولويات سياسية تحقق أولويات الزعيم أو الحاكم .

    إنها  بكل اختصار ، السياسة بخدعتها الديمقراطيةالساحرة  :

     أن يستخدم شخص ما ،  أشخاصاً آخرين لكي يحققوا أهدافه ، بخداعهم بأنهم سوف يحققون أهدافهم .

    إن السياسة هي فن خداع الآخرين لتسييرهم ذاتيّاً من خلال التأثير عليهم بالعقل المصطنع ، وللسيطرة عليهم ولتسخير طاقاتهم وإبداعاتهم وحماسهم ونشاطاتهم إلى حد التضحية بأموالهم وبأنفسهم وبحياتهم ، من أجل تحقيق أهداف من يقودهم من حكّام وزعماء .

    ومن أجل تحقيق هذه الغاية ، فلا يتردد السياسي في استغلال كل ما بحوزته من أديان ومن علوم ومن وسائل إعلام لكي يؤثر في الناس ، ولكي يحصل على أكبر قدر ممكن من المؤيدين والأتباع ، لكي يفرض نفسه في ميزان المعادلات السياسية. ويصبح العمل السياسي صعب التحقيق كلما كان الناس أكثر وعياً وعلماً وقدرة على النقاش والإنتقاد والإعتراض . اي كلما كان للناس عقول يفكرون وكلما كانت أمامه معطيات وحقائق يتفكّرون بها . لذلك فكان لا بد من تطوير أدوات وأساليب التأثير على الناس بتطوير أساليب السياسة وممارسات السياسي وتصرفاته وطريقة مخاطبة الآخرين . وهو ما حققته الذات الحاكمة من تطوير للأداء السياسي خلال الخبرات التاريخية المتراكمة ، مستفيدة من العلوم الحديثة  التي تهتم بالإنسان مثل علم النفس وعلم التربية والعلوم الإجتماعية وعلوم اللغة وفنون الخطابة ، وكذلك الإستفادة وسائل الإتصال والتأثير الجماعي ، مثل الجرائد والإذاعات والشاشات والمحطات الفضائية ، و تسخيرها للمتخصصين في الإعلام والتعبئة والتوجيه للتأثير على تفكير الناس وصناعة مواقفهم وتعبئتهم للحروب القادمة . إن العمل السياسي في أي مجتمع ، هو الروح الخفيّة التي لا يشعر بها أحد ، والتي تحرك كل ما في المجتمع .

    حتى أن الكثير من العائلات والمجتمعات والبلدان توحي إلى أفرادها بمنع وتحريم التعاطي في السياسة والتعييب على من يشترك مع مجموعة سياسية .

    إن السياسي مثل الساحر ، يمارس السحر ، ولكنه لا يقبل بأن يعرف أحد عن حقيقة أدواته وأساليبه الخادعة التي يستخدمها في سلب عقول أتباعه ، تماماً مثلما يخفي أسرار مؤامراته عن أعدائه . وهو ما يحرص السياسي على إخفائه ، حقيقة منطلقاته وحقيقة أهدافه وحقيقة ارتباطاته ومشاريعه وحقيقة حجمه في المشهد السياسي العام على المستوى المحلي والإقليمي  والدولي ، وحقيقة ما ينتظر أتباعه الذين ألغى عقولهم لكي يسيطر عليهم .

    فإن العقول المصطنعة ، يصنعها من يعمل في خدمته من  كتاب ورجال إعلام  ورجال دين ورجال علم وفكر ومثقفين ، لإنتاج عقول مفتعلة  بديلة عن عقول الناس ، مفصولة عن ارتباطها الفطري الربّاني بالأولويات الفطرية التي يسعى إليها كل كائن حي .

     فإن العقل الفطري للإنسان ، منذ ولادته وخلال مرحلة طفولته يكون مزوّداً  بالإستعدادات الفطرية وبالدوافع والميول الفطرية هي المقومات الضرورية التي تشكل أساس جوهر الإنسان ، بهذه المقومات تتميّز الكينونة البشرية للإنسان عن أي مخلوق آخر ، والتي من خلالها يتساوى كل إنسان مع أي إنسان آخر ، بحيث يكون كل إنسان هو الأنا الآخر لسواه  وتوأمه الجوهري الروحي والإنساني .

    وإن العقل الفطري الذي يشكل نواة إنسانية الإنسان وبداية حياة الإنسان منذ طفولته ، ينبغي التعامل معه بنفس القداسة والتكريم الذي نتعامل به مع الحرمات الإلهية المقدّسة والتي أهمها الإنسان الذي أهم ما فيه هو العقل . وإن إكرام الإنسان هو في التعامل مع عقله بمنطق الصواب والحق ، الذي تظهر ثماره في تحقيق الخير للإنسان في جميع احتمالاته .

    وإن إكرام الإنسان يبدأ منذ أن يبدأ فكرة و أمنية في ذهن أبويه  ثم يصبح جنيناً ثم طفلاً لكي تتحقق مشيئة الله من خلق الإنسان في كل إنسان من احتمالات الإنسان .

    وإن  إكرام الإنسان هو في إكرام عقله منذ اللحظة الأولى لولادته ، من خلال التعامل مع  عقله بالمعاملة الحقّة وبالمنطق الحق وبالعلم الحق ، وبالمنطلقات وبالحقائق وبالأهداف التي توجهه إلى  الحق وتحقق الخير له وللناس المحيطين به ، سواء في الأسرة أو في المجتمع أو الوطن أو الكوكب بأسره .

    إلأّ أن أنظمة الحكم المعاصرة  جعلت من العقل حبلاً يلتف على عنق الإنسان  لكي تقوده كما  تقاد الحيوانات بأيدي ساستها بالرّسن والجنزير وتعمل على الإستغلال الفاضح لطفولة الإنسان لتربية المواطن الذي يناسب النظام السياسي القائم ، ولكي يكون ملائماً لحكم الإستبداد  ولتعويده على قيم الخنوع والعبادة للحاكم بتضخيم الحجم الوهمي للسياسي أو  لصاحب الذات الحاكمة وتقديس رمزها المتمثّل  في الحاكم، وتعطيل الإستعدادات العقلية  في الإنسان وقدراته على الذكاء الطبيعي والنقد الحيوي والمعرفة الصحيحة بحقائق الأمور ليحل محل ذلك كله ، معطيات معرفية مصطنعة وخادعة ومعلومات مضلّلة هدفها خلق عقل مصطنع وأهداف مفتعلة وملتبسة لا تحقق لمن يتعب ويسعى إلى تحقيقها شيئاً .

     إن عمليات التوجيه والإعداد للأجيال الناشئة منذ الطفولة ، تقوم على خطط مدروسة للمؤسسات التعليمية والتربوية التي تنفّذها بعيداً عن المقاييس والإعتبارات الإنسانية للأهداف من التعليم والتربية بالنسبة للإنسان نفسه ، وإنما هي برامج تستخدم العمل التعليمي في خطة متكاملة لخلق الذات الخاضعة ، ولإنتاج العقل المستسلم والمتعصب والمحدّد في معلومات  لا قدرة له على تجاوزها أو القبول بمناقشتها أو مراجعتها . إنها عملية متكاملة من التضليل وغرس عادات الخنوع والإذلال والإيهام بإنكار الذات الفردية ونفخها بمعنويات ذاتية أنانية واستنفارها في وجه الذوات الأخرى في احتمالات الانا الآخر للتوائم الروحية التي يفترض أن تكون متوافقة من خلال العقل الإلهي الأساسي ، و جعل كل فريق من المجتمع يتربّص بالفريق الآخر من خلال التعبئة والتحريض وإثارة الفرقة والإنقسامات بين الناس ، لتحقيق أهداف سياسية وراءها مصالح إقتصادية ذات ارتباطاطات متشعبة بعيدة كل البعد عن الشعارات السياسية المعلنة ،  من خلال أكاذيب وتوجيهات تآمرية يتواطأ فيها الحاكم مع من يعملون تحت سلطته  من سياسيين متواطئين ومثقفين مأجورين وقوى مسلحة  تعمل تحت شعار حماية الوطن والمواطن  بينما هي تحمي عرش الحاكم من عقول ومن وعي المواطنين .

    بهذه الطريقة تمارَس السياسة في مختلف دول العالم حول الكوكب بأسره ، وإن تنوّعت تسميات الأنظمة من ديمقرطية أو جماهيرية أو حزبية أو ملكية  ... ولا فرق في الممارسة إلا بين دول تقوم بنفس الألاعيب من خلال مؤسسات ديمقراطية تمنحها الشرعية ، وبين دول يحكمها حكام أفراد يتصرفون بالدولة وبالشعب كما يتعامل  الرعيان عند التحكم بقطعان مواشيهم مباشرة ، وبدون الحاجة إلى  أية قوانين ولا مؤسسات.

     ففي البلدات التي تسيطر عليها الأنظمة الإستبدادية المتخلفة ، يكون الإهتمام بالقوى الأمنية وبالأجهزة الإعلامية وبمؤسسات التهليل والتضل في رأس اهتمامات الحاكم ومؤسسات الحكم .

     وبهذه الأجهزة والمؤسسات  وما فيها  من أدوات بشرية  ،  يحمي الحاكم نفسه ويتحايل على المحكومين  في مختلف فئاتهم وطبقاتهم، لكي يكون بإمكانه ممارسة سلطته الإستبدادية والإستفراد في الحكم لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع الأنانية والمصالح الشخصية باستغلال فرصة الحكم لسرقة ونهب الشعب وخيراته وحقوقه ، دون مساءلة ولا رقابة ولا محاسبة .

    وتلك هي خلاصة العمل السياسي وأزمة الإنسان المعاصر، ومبعث الخوف على مستقبل البشرية جمعاء.

    فإنّ في الإستيلاء على عقل الإنسان يتم السيطرة على الإنسان كله بجسمه وطاقاته وقدراته ، دون ارتكاب جريمة قتل ! إنها العبودية الخفيّة المقنـّعة. فبدلا من مشاهدة العبيد مقيدين بالسلاسل مدفوعين بقوة التهديد والوعيد . فنرى من يتوهّمون أنهم أحرار ، يسيرون بحريتهم ،و يندفعون بإرادتهم الذاتية ،و يتحركون بقراراتهم الداخلية،  لا عصا تضربهم ولا صراخ يخيفهم ، لكي يضعون في صناديق الإنتخابات أصواتهم التي سوف يصادرها و يخنقها من يعطونها لهم ،لكي يستند عليها في تشريع ما هو غير شرعي ، ولتبرير كل ما سوف يصدره من قرارات ضد تطلعاتهم وأمانيهم ، بحجة أنه رئيس شرعي ومنتخب من الشعب !

    وعلى العكس من تلك المظاهر الإستعبادية المنظورة والتي استغنى عنها الحكام وأبدلوها بأسايب جدية غير منظورة ، نجد   مطربات مثيرات تتراقص على شاشاتهم  ،  وفوق ذلك زعماء متنافسون يثيرون حماسهم ،  ونشرات إخبارية "تنير عقولهم" باخبار الحاكم، وبرامج دينية تعلّم فنون الخضوع للحاكم والصّبر عليه  والتخلي عن  حقوقهم وعن حياتهم  وعن كل ما فيها للسياسي الطامع الجشع ، مقابل جنات وحوريات ، وعد الله بها المتقين ، لكي يقوم المأجورون من رجال الدين بتفريغ الدعوة الدينية من محاربة الباطل ومن مواجهة الظالم ، إلى محاربة الإنسان ومواجهة عقله بالفتاوى والتوجيهات التي تزيد الظالم ظلماً والمقهور قهراً  .

     كلُّ هذه الأساليب السياسية المستحدثة لصناعو العقول المفتعلة ،  تحرّك في الناس الإندفاع الذاتي وتوجههم كلٌّ حسب الإتجاه الذي يُدفع إليه ويبرمج عقله في التوجّه نحوه . فنرى جماعات من "الأحرار" ، يقودها الإستعباد الداخلي الخفي الذي اخترعته مؤسسات الحكم  و الزعامات السياسية ، في إدّعاء الحرية والإستقلال والديمقراطية وغيرها من الشعارات، التي تفضحها النتائج التي يصل إليها المحكومون الذين يزدادون فقراً وعبودية وتبعية وخنوعاً لديكتاتوريات يتوارثها ذوو الأطماع والأحلام الأنانية ، والذين لا علاقة لهم لا بالحرية ولا بالإستقلالية ولا بالديمقراطية !

    وإن ما يتم زرعه منذ الطفولة ، من خلال برامج التعليم والتوجيه الإعلامي والبراباغاندا الدعائية ، ينبت الخضوع  والقبول الخالي من النقد ومن المحاكمة العقلية، سواء للأبوين في البيت أو للمعلم في المدرسة أو للزعيم في المجموعة و بالتزامن مع روح الخضوع للحاكم في السلطة.

    إن السلطة الحاكمة تستغل شعارات الديمقراطية وممارساتها الشكلية ، لتجديد شرعيتها ولشد خناق الحكم على من يحاول الخروج عن الطاعة والتبعية العمياء لمنطق الحكم ، ولاستبعاد   فئات الشعب التي توصّلت إلى خبرات ذاتية أوصلتها إلى عكس ما يدّعيه الحاكم عن نفسه وعن حكمه.

    وإن الحاكم يأتي إلى الحكم بشعارات ووعود ، تخالف ما لديه من نوايا وأطماع. فهو   يستخدم مؤسسات الحكم وما لديها من نفوذ  وإمكانيات ، لا لخدمة الشعب ومساعدته على إيجاد القيادات المستقبلية لتطوير أساليب الحكم وخبرات الشعب نحو المزيد من المشاركة الشعبية وتعزيز الديمقراطية، وإنما لصناعة العقلية الشعبية وبرمجة عقول المحكومين بحيث يتم إعداد الشعب على قياس الحاكم وبحسب احتياجاته لإطالة أمد الحكم وتثبيت الحاكم ليورث  أبناءه ومن بعدهم أحفاده ، إلى ما لا نهاية.

    إن السلطات السياسية في العالم العربي لا تأتي إلى الحكم من أجل تحقيق برامج سياسية في مرحلة تاريخية معينة في إطار تداول السلطة، وإنما هي تتعامل مع فرصة الحكم على أنها نهاية التاريخ والخروج من سياق التطور التاريخي للمجتمع ، لكي يتحوّل الحكم كلّه مصدر قوة الحاكم ومصدر قوته ومصدر  ثروته وضمانة لتعرزيز أنانيته الفردية والعائلية وملحقاتها.

     لذلك فإن هذه السلطات تحرّك جيوشاً من العاملين في المؤسسات الدينية والتعليمية وتسخّر الثقافة والفنون ، بل وكثيراً ما تربي الأسرة  أبناءها وفق توجيهات الحاكم المتواطئ ضد المحكومين، أو  بحسب توجّهات الزعيم وسلطته النفسية على الأتباع ، كل ذلك للوصول إلى السيطرة على المواطن الذي يجترّ الأفكار التي زرعت فيه والتي تعبّأ بها، لكي يظهر في الإدلاء برأيه في صندوق الإنتخابات على أنه صاحب قرار حر وإرادة جماهيرية ، لتكتمل بذلك خدعة الديمقراطية التي لا تبدو حقيقية وشرعية إلاّ بقطعان من الجماهير التي تبدو للمراقبين الدوليين من المتغافلين والمتواطئين، وكأن هذه القطعان ، بملء إراداتها وبكامل وعيها تصوّت وتختار، فيما هي موجّهة من التأثيرات التي تسيطر على عقولها كل من قبل مرجع ومصدر وبرمجة مختلفة.

    وكل ذلك لإعطاء صفة الشرعيّة إلى حكام وسلطات ومؤسسات غير شرعية تقوم على النفاق والخداع وتستغل ظروف المحكومين وأوضاعهم دون أن تسعى إلى تحسينها، وتستغل جهل الأميين وحاجة الفقراء وتقايض المتعلمين والمتخصصين بالوظيفة والمعاش مقابل السكوت عن الظلم والفساد.

    وكل ذلك يحصل في مجتمعات يأكل الإنسان فيها  لحم أخيه الإنسان في البلد الواحد ، ويتواطأ الإنسان ضد مصلحة مجتمعه مجبراً أو مختاراً .

    مجموعات من العاملين في الإعلام والفنون والتربية والتوجيه، في وظيفة جماعية هدفها الإستيلاء على عقول محبيهم من المشاهدين، يضعون المعارف السامة في أوعية العقول لتسيير الأجساد الحية من خلال ما يبدو أنه التوجيه الذاتي للعقول.ـ

    جيوش من الموظفين يعملون في مؤسسات التواطؤ الرسمية للحاكم ، أو في المنابر الإعلامية والصحافية للزعيم الساعي للحكم ، في حملات تضليل ضد عقول المحكومين لاستبدالها ومن خلالها لاستبدال الإنسان من إنسان مخلوق لكي يحقق مشيئة الله من خلقه ، إلى أداة بشرية عمياء لتحقيق مشيئة الحاكم أو الزعيم .

     إنه الواقع السياسي المؤلم في عهد مسالخ العقول بعد انقضاء عهد مسالخ الاجساد. وبعد اكتشاف الحاجة للإحصاء والعدّ  في اللعبة الديمقراطية لتزوير رغبات وخيارات المحكومين من أبناء الشعوب. من خلال عملية تزوير الحقائق، لكي يكون الضحايا هم المرجع الشرعي لسلطات الجلادين ، في عملية تسليم قطعان المحكومين أنفسهم  لمن يسنّ سيوف حساباته المصرفية على رقابهم ، بدلاً من سن القوانين التي تعترف بحقوققهم والتي تحمي حقوق أبنائهم وتجعلهم آمنين على مستقبلهم.

    بناء على هذه الأهمية الخطيرة للعقل، فقد كان لا بد من حمايته وإعداده لكي يحمي نفسه من العقول المفترسة التي تحاول اصطياده  ومصادرته مع الحفاظ على الجسم سليماً ولو مؤقـّتاً  إلى حين استخدامه حطباً للإشتعال في الحروب الأهلية ، أو أداة عمياء للتصفيق في المهرجانات ، أو زبائن متهافتة لشراء السلع التي تدر الأرباح على شركات ومصالح  أصحاب السلطات التي تستخدم الإنسان  قشرة خارجية لحماية الزعماء أو الحكام .
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 التعليقات:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: صناعة العقول والعبوديّة المقنّعة في الديمقراطية الخادعة Rating: 5 Reviewed By: Saad
    Scroll to Top