مقاتل وقائد عربي إسلامي، مؤسس السلالة الأيوبية في مصر وسوريا . أصل الأيوبيين انهم كرد من الأكراد الروادية من أذربيجان . انتصر على الصليبيين وحرر القدس من إحتلالهم . القائد الذى اثرى التاريخ بمواقفه الرجولية والبطولية على مر الازمان . فقد كان خير حاكم إنه القائد الذى لا يستطيع العالم كله بمختلف دياناته أن ينكر فضله وعدله . كم تمنيت أن يعود الزمن إلى الخلف قليلاً حيث صلاح الدين ، حيث كان للقدس قانون عادل يتبعه المسلم والمسيحى على السواء . وكم صرخت وا صلاحاه خاصة ونحن فى زمن يفتقر جداً لصلاح وأمثاله . إنه البطل الذى تمنيت كثيراً أن يهب الله لأمتنا فى هذا الوقت حاكماً مقسطاً كصلاح الدين لا يخشى فى الله لومة لائم . إنه صلاح الدين المسلم ، الشجاع ، الصادق ، العادل ، الأمين ، الذى إهتزت تحت أقدامه القلاع الحصينة ومن قبلها أعناق الجبابرة ، الذى إحترمه عدوه قبل صديقه . ماذا أقول فى رجل جعل القبلية والطائفية بكل مسمياتها تتبوتق وتتفق فى صفاته وأفعاله . ألا يكفى أن أقول صلاح الدين ؟ إنه .. وإنه صلاح الدين الأيوبى وكفى .
هو يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان ابو المظفر . وُلد عام 1138م الموافق ربيع الثاني 532 هـ في تكريت شمال العراق {تقع على مسافة 160 كم شمال غرب بغداد على نهر دجلة } . كان لجده شاذى {ومعناها فرحان}المولود ببلدة (دوين) على أطراف أذربيجان مع جورجيا ولدان هما أيوب{وهو الأكبر ، ويغلب عليه العقل والحكمة والتؤدة } وشيركو {وشيركوه بالعربية : أسد الجبل }نزل بهما أبوهما إلى تكريت . وتلقب أيوب بلقب نجم الدين وتلقب شيركو بلقب أسد الدين وتلقب يوسف بلقب صلاح الدين . وكان قد قام ( كأبيه وعمه ) في بداياته بخدمة ملك دمشق الملك العادل نور الدين زنكي {(1118 -174 1، الإبن الثاني لعماد الدين زنكي حكم بعد وفاة والده }وكان من القادة في جيشه ، أرسله نور الدين على رأس الجيش من دمشق إلى مصر ليستكمل عمل عمه أسد الدين شيركوه لمواجهة الصليبين فى الشام . وفي مصر بسط سيطرته عليها و العمل على صد الحملة الصليبية (1096 - 1291، وأسميت بهذا الاسم لأن الذين اشتركوا فيها تواروا تحت رداء الدين المسيحي وشعار الصليب من أجل الدفاع عنه وذلك لهدفهم الرئيسي وهو الاستيلاء على ارض المشرق في الوقت الذي كان فيه الشرق منبع الثروات ولذلك كانوا يخيطون على ألبستهم على الصدر والكتف علامة الصليب من قماش أحمر .
وهدف الحروب الصليبية في الاصل كان إسترداد القدس والأراضى المقدسة من المسلمين ، وكانت القاعده التي اطلقت في الأصل استجابة لدعوة من الامبراطوريه البيزنطيه الارثوذكسيه الشرقية للمساعدة في توسيع ضد المسلمين سلاجقه الاناضول)، و في ذات الوقت ليستكمل انتزاعها من الفاطميين الذين كانت دولتهم في أفول ، فنجح في عرقلة هجوم الصليبيين سنة 1169 بعد موت عمه شيركوه ، و قمع تمرداً للجنود الزنوج ، كما فرض نفسه كوزير للخليفة العاضد لدين الله ، فكان صلاح الدين هو الحاكم الفعلي لمصر . كان الوزير الفاطمي شاور { وزير العاضد ، هو أبو شجاع شاور بن مجير ، وجده أبى ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة مرضعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم } قد فر من مصر هرباً من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة وقتل ولده الأكبر طيء بن شاور فتوجه شاور إلى الشام مستغيثاً بنور الدين زنكي في دمشق ،فوجه نور الدين أسد الدين في جماعة من عسكره كان صلاح الدين في جملتهم وهو كاره للسفر معهم . .كان نور الدين كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته فانتدبه لذلك وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور معهم فدخلوا مصر .وتمت لهم السيطرة . غدر شاور بأسد الدين واستنجد بالإفرنج عليه فحاصروه فى بلبيس ، وبلغ ذلك نور الدين واسد الدين فخافا على مصر أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد. فتجهز أسد الدين في قيادة الجيش -الذى أمر الملك نور الدين بأرساله دمشق لمجابهة الصليبين -، وصلاح الدين معه . واتفق شاور والمصريون والإفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة .
وتوجه صلاح الدين في قيادة الجيش إلى الإسكندرية فاحتمى بها وحاصره الوزير شاور ثم عاد أسد الدين من جهة الصعيد إلى بلبيس وتم الصلح بينه وبين المصريين وسيروا له صلاح الدين فساروا إلى دمشق . عاد أسد الدين من دمشق إلى مصر مرة ثالثة وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر ناكثين العهود مع أسد الدين طمعا في البلاد فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين في الشام لم يسعهما الصبر فسارعا إلى مصر .
يقول بن شداد : لقد قال لي السلطان صلاح الدين قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الدفعة وما خرجت من دمشق مع عمي بإختياري وهذا معنى قول القرآن (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) .وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالإفرنج أخرى، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، فقتله وأصبح أسد الدين وزيرا ودام آمرا وناهيا و صلاح الدين يباشر الأمور مقرراً لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى أن مات أسد الدين من السنة نفسها . ولما بلغ صلاح الدين قصد الإفرنج دمياط ، شن عليهم الغارات ، فانتصر عليهم فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلاتهم وقتل من رجالهم عدد كبير .في 1170 أغار صلاح الدين على غزة التي كان يسيطر عليها الصليبيون ، و في السنة التالية انتزع أيلة من مملكة أورشليم الصليبية و أغار على مقاطعاتي شرق نهر الأردن {يبلغ طوله 360 كلم ويتكون من ثلاثة روافد هي بانياس القادم من سوريا ، واللدان القادم من شمالي فلسطين ، وحاصباني القادم من لبنان , و بحيرة طبرية التي تكونت جراء حدوث الشق السوري الأفريقي}الشوبك و الكرك .
تأسيس الدولة :
في البداية لم يكن مركز صلاح الدين في مصر مستقرا بسبب الاضطراب الذي سببه توالي عدد كبير من الخلفاء الفاطميين في مدد قصيرة، تحكم في قراراتهم سلسلة من الوزراء .بعد موت العاضد سنة 1171، دفع صلاح الدين العلماء إلى المناداة بالمستضيء العباسي خليفة و الدعاء له في الجمعة و الخطبة باسمه من على المنابر، و بهذا انتهت الخلافة الفاطمية في مصر ، و حكم صلاح الدين مصر كممثل لنور الدين الذي كان الذي كان في النهاية يقر بخلافة العباسيين .حدّث صلاح الدين اقتصاد مصر، و أعاد تنظيم الجيش مستبعداً العناصر الموالية للفاطميين، و اتبع نصيحة أبيه أيوب بألا يدخل في مواجهة مع نور الدين الذي كان يدين له رسميا بالولاء. لكن بعد موت نورالدين سنة 1174 اتخذ صلاح الدين لقب "سلطان" في مصر مؤسساً الأسرة الأيوبية ، و ماداً نفوذه في اتجاه المغرب العربي .
كان أسد الدين عندما انطلق إلى جنوب مصر للقضاء على مقاومة مؤيدي الفاطميين أدخل اليمن تحت حكم الأيوبيين .بعد موت نورالدين سار صلاح الدين إلى دمشق فدخلها واستقبل فيها بترحاب بينما انتقل الصالح إسماعيل إبن نور الدين إلى حلب وظل يقاوم حتى مقتله سنة 1181.تُوّج السلطان صلاح الدين ، وعضّد مُلكه بالزواج من أرملة نورالدين ، عصمت الدين خاتون ، ثم بسط نفوذه على حلب و الموصل . فرض صلاح الدين نفوذه على الجزيرة في شمال العراق بعد فشل محاولتى إغتياله ، و أخضع الزنكيين في الموصل و سنجار و الأرتوقيين في ماردين و ديار بكر، كما بسط نفوذه على الحجاز .
محاولات إغتياله :
و بينما كان يحاصر حلب يوم 22 مايو 1176 حاول الحشاشون اغتياله، فأجروا محاولتين كانت ثانيهما وشيكة إلى حد أنه أصيب . لما فتح السلطان حِصن بزاعة ومنبج وخرج مافي أيديهم من المعاقل ، والقلاع، عادوا إلى عادتهم في نصب الحبائل للسلطان. فكاتبوا سناناً صاحب الحشيشية مرة ثانية ، ورغّبوه بالأموال والمواعيد ، وحملوه على إنفاذ من يفتك بالسلطان.فأرسل جماعة من أصحابه فجاءوا بزي الجنود ، ودخلوا بين المقاتلة وباشروا الحرب وأبلوا فيها أحسن البلاء ، وامتزجوا بأصحاب السلطان لعلهم يجدون فرصة ينتهزونها. فبينما السلطان يوماً جالس في خيمة جاولي ، والحرب قائمة والسلطان مشغول بالنظر إلى القتال ، إذ وثب عليه أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رأسه، وكان رحمه الله محترزاً خائفاً من الحشيشية، لايترع الزردية عن بدنه ولاصفائح الحديد عن رأسه؛ فلم تصنع ضربة الحشيشي شيئاً لمكان صفائح الحديد وأحس الحشيشي بصفائح الحديد على رأس السلطان فسحب يده بالسكينة إلى خد السلطان فجرحه وجرى الدم على وجهه ؛ فتتعتع السلطان بذلك . ولما رأى الحشيشي ذلك هجم على السلطان وجذب رأسه، ووضعه على الأرض وركبه لينحره ؛ وكان من حول السلطان قد أدركهم دهشة أخذت عقولهم .
وحضر في ذلك الوقت سيف الدين يازكوج ، وقيل إنه كان حاضراً ، فاخترط سيف وضرب الحشيشي فقتله. وجاء آخر من الحشيشية أيضا يقصد السلطان ، فإعترضه الأمير داؤود بن منكلان الكردي وضربه بالسيف ، وسبق الحشيشي إلى ابن منكلان فجرحه في جبهته ، وقتله ابن منكلان، ومات ابن منكلان من ضربة الحشيشي بعد أيام . وجاء آخر من الباطنية لكى يقتل السلطان ،فحصل في سهم الأمير على بن أبى الفوارس ، فهجم على الباطني ودخل الباطني فيه ليضربه فأخذه علي تحت إبطه ، وبقيت يد الباطني من ورائه لايتمكن من ضربه ، فصاح علي : أقتلوه وأقتلوني معه ، فجاء ناصر الدين محمد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بسيفه ، ومازال يخضخضه فيه حتى سقط ميتاً ونجا ابن أبى الفوارس . وخرج آخر من الحشيشية منهزماً ، فلقيه الأثير شهاب الدين محمود ، خال السلطان فتنكب الباطني عن طريق شهاب الدين فقصده أصحابه وقطّعوه بالسيوف .
وأما السلطان فإنه ركب من وقته إلى سرادقه ودمه على خده سائل ، وأخذ من ذلك الوقت في الإحتراس والإحتراز ، وضرب حول سرادقه مثال الخركاه ، ونصب له في وسط سرادقه برجاً من الخشب كان يجلس فيه وينام ، ولايدخل عليه إلا مَنْ يعرفه ، وبطلت الحرب في ذلك اليوم ، وخاف الناس على السلطان. وإضطرب العسكر وخاف الناس بعضهم من بعض ، لذلك طُلب إلى السلطان الركوب ليشاهده الناس ، فركب حتى سكن العسكر .
حروبه مع الصليبيين :
كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم ، و كان الإستثناء هو موقعة مونتجيسارد يوم 25 نوفمبر 1177 حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ ترك الجند تسعى وراء الغنائم و تتشتت، فهاجمته قوات بولدوين السادس ملك أورشليم و أرناط و فرسان المعبد و هزمته . إلا أن صلاح الدين عاد و هاجم الإمارات الفرنجية من الغرب و إنتصر على بولدوين في موقعة مرج عيون في 1179 و كذلك في السنة التالية في موقعة خليج يعقوب ، ثم أرسيت هدنة بين الصليبيين و صلاح الدين في 1180. إلا أن الصليبيين لم يلتزموا بالهدنة وشنوا الغارات ، مما دفع صلاح الدين إلى الرد .
كان أرناط يتحرش بالتجارة و بالحجاج المسلمين بواسطة أسطول له في البحر الأحمر ، فبنى صلاح الدين أسطولاً من ثلاثين بارجة لمهاجمة بيروت 1182و عندها هدد أرناطُ بمهاجمة مكة و المدينة ، فحاصر صلاح الدين حصن الكرك {مدينة أردنية تقع في محافظة الكرك جنوب العاصمة الأردنية عمّان وتبعد عنها حوالي 120 كم }معقل أرناط مرتين و رد أرناط بمهاجمة قوافل الحجاج المسلمين . بعد أن إستعصى حصن الكرك المنيع على صلاح الدين أدار وجهه وجهة أخرى و عاود مهاجمة عزالدين مسعود بن مودود الزنكي في نواحي الموصل التى كان قد بدأت جهوده في ضمها . إلا أن تحالف عزالدين مع حاكم أذربيجان و مملكة جبال حال دون تحقق مراده ، ثم إن صلاح الدين مرض فأرسيت معاهدة في 1186 .
وبعد عام سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس فى يد صلاح الدين بعد ان هُزمت القوات الصليبية في موقعة حطين {قرب قرية حطين، بين الناصرة وطبرية}فى 4 يوليو 1187. حيث إلتقت قوات صلاح الدين فى حطين مع القوات المجتمعة لجاي ذي لوزينان {1150 - 1194 فارس فرنسي أصبح ، عن طريق زواجه من الأميرة سيبيلا أنجو أخت الملك بلدوين الرابع ملكاً على مملكة بيت المقدس}نائب ملك أورشليم ، و ريموند الثالث ملك طرابلس ، و في تلك الموقعة كادت قوات الصليبيين تفنى على يد جيش صلاح الدين و كانت طامة كبرى و نقطة تحول في تاريخ الصليبيين . كما أسر أرناط و أشرف صلاح الدين بنفسه على إعدامه إنتقاماً لتحرشه بالقوافل ، كما أسر جاي ذي لوزينان إلا أنه أبقى على حياته بشرط أن يرجع إلى فرنسا فاستقر في قبرص وأسس فيها حكماً للعائلة . دخلت قوات صلاح الدين القدس يوم 2 أكتوبر 1187 بعد ان أستسلمت المدينة وكان قد عرض شروطاً كريمة للإستسلام، إلا أنها رُفضت . فبعد بدء الحصار وبعد أن إستشار مجلسه منح العفو للأوروبيين من سكان القدس ، على أن تُدفع فدية لكل فرنجي في المدينة سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً ، إلا أن صلاح الدين سمح لكثيرين بالخروج ممن لم يكن معهم ما يكفى لدفع الفدية عن جميع أفراد أسرهم . وبذلك دانت له القدس .قبل القدس كان صلاح الدين قد استعاد كل المدن تقريباً من الصليبيين ، ما عدا صور التى كانت المدينة الوحيدة الباقية في يد الصليبين .
من الناحية الاستراتيجية ربما كان من الأفضل لصلاح الدين فتح صور قبل القدس لكون الأولى بموقعها على البحر تشكل مدخلاً لإمدادات الصليبيين من أوروبا ، إلا أنه اختار البدء بالقدس بسبب أهميتها الروحية لدى المسلمين، ويقال أنه لم يبتسم في حياته قط حتى حرر القدس . صور {جنوب لبنان } صمدت أمام حصارين لصلاح الدين . حفّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة 1189، مُوِّلت في إنجلترا و أجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عرفت بضريبة صلاح الدين . قاد الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوروبا في ذلك الوقت هم رِيتشَارد (قلب الأسد) ملك إنجلترا ، و فيليب أغسطس ملك فرنسا ، و ملك ألمانيا فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس ، إلا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة ، و انضم الآخران إلى حصار عكا التي سقطت ، و أُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم بمن فيهم نساء و أطفال ، فانتقم صلاح الدين بقتل كل الفرنجة{ هم -بشكل عام- الشعوب والقبائل التي تتحدث باللغات الجرمانية} الذين أسروا بين شهرى أغسطس وسبتمبر . ثم إشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة ريتشارد في موقعة أرسوف التي إنهزم فيها صلاح الدين ، إلا أن الصليبيين لم يتمكنوا من إجتياح الداخل و بقوا على شريط ساحلي ضيق يمتد بين صور ويافا و فشلت كل محاولاتهم لغزو القدس ، فوقّع رِيتشَارد معاهدة الرملة 1192مع صلاح الدين مستعيداً بموجبها مملكة أورشليم الصليبية كما فتحت القدس للحجاج المسيحيين . ذاع صيت صلاح الدين في أوروبا كمحارب شهم كريم الأخلاق أبي النفس. ولم يكن مقاتلاً مغواراً فحسب، بل كان مثقفاً يحب العلم ويشجع العلماء . عمر المساجد وأصلح الري وبنى القلاع والأسوار في القاهرة في دمشق. مات في دمشق ودفن فيها .
العلاقة بين صلاح الدين الأيوبى و ريتشارد مثالاً على الفروسية و الاحترام المتبادلين رغم الخصومة العسكرية ، فعندما مرض ريتشارد بالحمى أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص ، كما أرسل إليه فاكهة طازجة و ثلجاً لتبريد الشراب ، و هو إلى جانب كونه فعلاً كريماً يعد استعراضا للقدرة ، و عندما فقد ريتشارد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين إثنين . عرض ريتشارد على صلاح الدين فلسطين موحدة للمسيحيين الأوربيون و المسلمين العرب بطريق تزويج أخت ريتشارد بأخو صلاح الدين و أن تكون القدس هدية زفافهما . إلا أن الرجلين لم يلتقيا أبداً وجهاً لوجه و كان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل .
موت البطل :
كانت المواجهة مع ريتشارد و معاهدة الرملة آخر أعمال صلاح الدين ، إذ أنه بعد وقت قصير من رحيل ريتشارد ، مات صلاح الدين من الحمى في دمشق في 3 مارس 1193، الموافق يوم الأربعاء 27 من صفر 589ھ. عن سبع وخمسين عاماً . و عندما فُتحت خزانته الشخصية وجدوا أنه لم يكن فيها ما يكفى من المال لجنازته ، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجرماً واحداً ذهباً سورياً ولم يخلف مُلكاً ولا داراً ، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات . ولكنه قسم دولته بين 17 ولداً وأخاً و كان له أبنة واحدة , فتقاتلوا بعده ومزقوا المملكة شر ممزق حتى جاء أجلهم على يد المماليك , وفي سنة 756هـ / 1259م دخل التتار بلاد المسلمين حيث وصل هولاكو بعساكره الى الشام .
بعد وفاة البطل بُويع لولده الأفضل نور الدين على من بعده وكان نائبه على دمشق . إسترد صلاح الدين القدس فى 27 رجب 583هجرية 2 أكتوبر 1187 من الصليبيين . حكم سوريا تسعة عشرة سنة و مصر أربع وعشرون سنة . والله إنك لتحس بعظمته وإجلاله وأنت واقف أمام قبره . رحمه الله رحمة واسعة .
صلاح الدين مدفون في ضريح فى المدرسة العزيزية قرب الجامع الأموي في دمشق إلى جوار الملك نور الدين زنكي ، و كان فلهلم الثاني إمبراطور ألمانيا عندما زار دمشق توجه إلى مدفن صلاح الدين ووضع باقة زهور جنائزية على قبره عليها نقش معناه (ملك بلا خوف و لا ملامة علّم خصومه طريق الفروسية الحق) ، كما أهدى نعشاً رخامياً للضريح إلا أن جثمان صلاح الدين لم ينقل إليه و بقى في النعش الخشبى ، بينما بقى الهدية في الضريح خاوياً إلى هذا اليوم .
في ساعة موته كتب القاضى الفاضل قاضى دمشق إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زِلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الحناجر وقد ودعت أباك ومخدومى وداعاً لا تلاقى بعده وقد قبلت وجهه عنى وعنك وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضى عن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف وأما الوصايا فما تحتاج إليها والآراء فقد شغلنى المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم والسلام} .
صلاح الدين فى ذاكرة التاريخ :
1) العربى :
بالرغم من أن الدولة التي أسسها صلاح الدين لم تدم طويلاً من بعده ، إلا أنه خلد فى الوعى الاسلامى على أنه محرر القدس و استلهمت شخصيته في الملاحم و الأشعار و حتى مناهج التربية الوطنية في الدول العربية ، كما ألفت عشرات الكتب عن سيرته ، و تناولتها المسرحيات و التمثيليات و الأعمال الدرامية . لا يزال صلاح الدين يُضرب به المثل على القائد المسلم المثالى ،الشجاع ، المقدام ، الجسور ، الذي يعمل على مواجهة أعداءه بحسم ليحرر أراضي المسلمين ، دون تفريط في الشهامة و الأخلاق الرفيعة .
2) الأوربى :
بالرغم من كونه خصماً عنيداً لهم ، فإن صلاح الدين ظل نموذجاً للفارس الشهم الذي تتجسد فيه أخلاق الفروسية بالمفهوم الأوربى ، حتى أنه توجد ملحمة شعبية شعرية من القرن الرابع عشر تصف أعماله البطولية . كما أن الشاعر دانتى أليجييري {1 يونيو 1265 - 14 سبتمبر 1321 كان شاعراً من فلورنسا ، إيطاليا. أعظم أعماله الكوميديا الإلهية تتكون من ثلاثة : الجحيم ، وعدد الأبيات : 4710 ،المطهر ، وعدد الأبيات : 4755 الجنة ، وعدد الأبيات : 4758 وهى نظرة خيالية بالإستعانة بالعناصر المجازية حول الآخرة بحسب الديانة المسيحية ، وتحتوي على فلسفة القرون الوسطى كما تطورت في الكنيسة الغربية (الكاثوليكية الرومانية) ، يعتبر البيان الأدبي الأعظم الذي أنتجه أوروبا أثناء العصور الوسطى }قد وضعه في المطهر مع عدد من الشخصيات التي عدها كافرة - وفق معتقده المسيحي الكاثوليكي - لكنها في نظره شخصيات صالحة و سامية أخلاقياً (وضع دانتي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فى المطهر كذلك) . كما أن صلاح الدين يصور بشكل مقبول في رواية والتر سكوت التعويذة المكتوبة سنة 1825 . و يدرك الأوربيون أنه بالرغم من المذابح التي أوقعها الصليبيون عندما غزوا القدس في 1099 فإن صلاح الدين قد عفا عن كل المسيحيين الكاثوليك (الأوروبيين) و حتى عن الجنود المنهزمين طالما كانوا قادرين على دفع الفدية ، في حين عُومل الأرثودكس (و منهم العرب) حتى بأفضل من ذلك لأنهم عادة ما كانوا يعارضون الغزو الأوربى الصليبى . و بالرغم من الاختلاف في العقيدة فإن القُواد المسيحيين إمتدحوا صلاح الدين ، خصوصاً ريتشارد قلب الأسد الذي قال عنه أنه أمير عظيم و أنه بلا شك أعظم و أقوى قائد في العالم الإسلامي؛ كما رد صلاح الدين بأنه لم يكن هناك قائد مسيحي أشرف من ريتشارد .قال عنه المؤرخون الأوربيون : {من الحق أن كرمه و ورعه و بُعده عن التعصب ؛ تلك الليبرالية و النزاهة التى كانت النموذج الذي ألهم مؤرخينا القدماء ؛ هى ما أكسبه إحتراماً في سورية الإفرنجية لا يقل عن الذي له فى أرض الإسلام } .يقول المؤرخ الانكليزي مالكم كاميرون : صلاح الدين هو بحق نابليون كردي وكان قائدا لايقل عن نابليون في الجدارة والطموح لقيادة العالم الشرقى .
قال المؤرخ الإنجليزي أميروتو في كتابه ص : 1635;1639;1638 : بعد الحرب الصليبية الثانية مرت فترة لم تقم أوروبا خلالها بأي نشاط عسكرى ضد المسلمين ، وفى هذه الأثناء حدث أكبر حادث فى تاريخ الحروب الصليبية وهو ظهور صلاح الدين الأيوبى ، وبينما كان المعسكر الإسلامى يقوى بهذا البطل كان معسكر الصليبيين ينهار ، فقد كانت الإمارات اللاتينية في سوريا وفلسطين تعيش فى أتعس الظروف التي يخلقها النظام الإقطاعى ، ومال المحتلون إلى الدعة يوماً بعد يوم ، ونسوا ما تتطلبه حياتهم كغاصبين من مهام ومسئوليات ، أما المعسكر الإسلامي فقد حصل في هذه الأثناء على مكانةٍ حققها له القائد الجديد الذى كان أعظم شخصية سياسية وعسكرية عرفها عصر الحروب الصليبية ، ليس فقط فى بطولته الحربية ، بل في صفاته الشخصية التى تضعه فى القمة بين العظماء والمصلحين في تاريخ العالم . لقد كان صلاح الدين يعرف أهدافه الحربية ، ويجيد التخطيط لها ، وكان من رُعاة العلوم والمعارف ، وكان مثالاً طيباً فى الوفاء بالوعد والشهامة والكرم ، وعلى النقيض من كفاءته ومن صفاته كان يتسم معاصروه من الحكام الصليبيين للولايات اللاتينية ، الذين كانوا همجاً وبرابرة .
من ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنجليز (هو ريتشارد قلب الأسد ) إلى صلاح الدين الأيوبى ملك العرب أيها المولى : حامل خطابي هذا ، بطل صنديد ، لاقى أبطالكم فى ميادين الوغى ، وأبلى في القتال البلاء الحسن . وقد وقعت أخته أسيرة ، فساقها رجالكم إلى قصركم وغيروا إسمها . فقد كان اسمها ماري فأطلق عليها اسم ثريا . وإن لملك الإنجليز رجاء يتقدم به إلى ملك العرب ، وهو إما أن تعيدوا إلى الأخ أخته ، وإما أن تحتفظوا به أسيراً معها ، لا تفرقوا بينهما ، ولا تحكموا على عصفور أن يعيش بعيداً عن أليفه . وفيما أنا بإنتظار قراركم بهذا الشأن ، أذكركم بقول الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد سمعته من صديقى الأمير حارث اللبنانى وهو (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) .
فكان جواب السلطان الناصر صلاح الدين : (من سلطان المسلمين صلاح الدين الى ريكاردوس ملك الإنجليز أيها المولى : صافحت البطل الباسل الذي أوفدتموه رسولاً إلىّ ، فليحمل اليكم المصافحة ممن عرف قدركم في ميادين القتال . وإنى لأحب أن تعلموا ، بأننى لن أحتفظ بالأخ أسيراً مع أخته ، لأننا لا نبقى في بيوتنا إلا أسلاب المعارك . لقد أعدنا للأخ أخته . وإذا عمل صلاح الدين بقول عمر بن الخطاب ، فلكى يعمل ريكاردوس بقول عيسى : فرد أيها المولى الأرض التى اغتصبتها إلى أصحابها ، عملاً بوصية السيد المسيح عليه السلام .
0 التعليقات:
إرسال تعليق